2 ديسمبر 2008

قراءة في سياكلوجيا الغياب




قراءة في سياكلوجيا الغياب ، فيلم (فايروس) لجمال أمين

نزار الراوي

يذكرني فيلم (فايروس) للمخرج العراقي جمال أمين بتعليق الاعلامي البريطاني جيرمي باكسمان الذي ادار الندوة التي استضافتني خلالها جامعة كامبردج قبل عامين للحديث مباشرة الى الجمهور الانكليزي عن اشكاليات العمل الثقافي في العراق وأخطر التحديات هناك؛ عندما قال-( منذ أعوام ونحن نستمع عن موضوع العراق ومشاكله من المصادر الأكثر بعداً عن الوضوح والدقة والواقعية؛ الجنرالات الأمريكان وقادة السياسة العراقية هم بحق أسوأ من يتحدث عن مشاكل العراق).يبدو أن جمال أمين المخرج غير التقليدي يتفق مع هذه المقولة غير التقليدية والتي تنم عن رغبة حقيقة بالاطلاع على اصول الاشياء وجذور المتغيرات لا على ظواهرها المصدرة للاعلام وسائل الاتصال التقليدية، حيث لجأ لطرح المشكلات الكبرى التي تكتنف الوطن من خلال احاديث تكاد تكون يومية لشخصيات عادية ربما تكون غير مدركة لكونها بتجاذبها لاطراف ذلك الحديث تصنع واحدة من أهم وثائق المستقبل.
شاهدت فيلم فايروس من زواية أخرى غير التي يطالبنا بها التلقي المتعجل للفيلم، لم أتعاطف مع فكرة السيارة- الوطن بل حاولت قراءة الفيلم من حيث هو وثيقة تأريخية لحوار مهم حول الوطن من قبل اناس ربما غير مهمين تاريخياً، أنا أزعم ان الحوار مهم لأنه حوار يومي تقليدي في مقاه ومحال وأزقة قرى ومدن العراق وهو دائر بين الجميع منذ مدة وقد توقف الآن بسبب عدم جدواه لدى الجميع بلا استثناء، أقصد أنه تلاشى على أعتاب النتغيرات الكبرى الأكثر واقعية التي يمر بها الوطن.
الأهم من الحوار هو الشخصيات الأربع التي تبدو للوهلة الأولى منتمية بوضوح لمرجعياتها القومية والطائفية لكنها تمثل بالنسبة لي عمقاً سايكولجياً أكثر أهمية وواقعية، يشير الى عجز المواطنة العراقية بمختلف اطيافها عن بلورة مفهوم ثقافي للهوية الوطنية، مفهوم يقبل التطبيق والتعايش، ولعل دعوة (جيا) الكردي كانت صريحة أكثر مما يحتمل حتى (جليل) الشيعي- الائتلافي ان صح التعبير فهو مؤيد حتى النخاع للائتلاف الشيعي الحاكم بتشكيلته غير المنسجمة حتى مع ذاتها، فجليل يحاول ان يترجم الرغبة الكردية الصريحة بالانفصال على انها حق طبيعي للحياة بكرامة واستقلالية نسبية داخل حدود الوطن الواحد المرفوض اساسا من قبل جيا، أما (محمد) السني –المدافع عن البعث- بحجة انه ليس بكفر فلم يفهم قط فكرة جيا وحاول ان يهون على نفسه بان الاشكالية هي اشكالية علم اصفر او علم احمر يتطاول أحدهما على الآخر بضعة أشبار، أما (مصطفى) الشيعي المتغطرس الذي طرد اصدقاءه من سيارته مقابل نشوة حزن مزيف لم يعلق على طروحات جيا كما علق متهماً على تهكمات (فرقد) الشيعي- العلماني بانه قسم الوطن وسارع باتهامه بمنتهى الجدية والتعاسة ببيع الوطن والمواطنة مع أن الرغبة في المزاح والاستفزاز الايجابي كانتا باديتين على فرقد حينما فعلها، وأقول ان احزانه (مصطفى) مزيفة لانه ادعى عدم الاستماع للاغاني في حين تمايل طربا عندما ابتدأت الرحلة على انغام ام كلثوم وردد معها ترديد الحافظين، لكنه سرعان ما تقوقع داخل منظومة دينية طاردة للاخر حالما شعر انه ابتعد عن المنطلق بما يكفي لتهديد الاخرين بنفيهم خارج السيارة التي لا يملكونها اصلاً.
لعل العقدة الحقيقة بالنسبة لي تبدو بيد فرقد الذي نظنه للوهلة الأولى ممثلا وناطقاً باسم الاعتدال والمدنية خاصةً عندما دعا للاحتكام الى التصويت حلاً للنزاع الأول حول الشريط الذي يرغبون أو لا يرغبون بسماعه، هذا المعتدل لم يافجئني بكونه لا يرغب بالعودة للعراق لا الآن ولا في المستقبل حتى البعيد، فهو كحال مبدعينا ومعتدلي هذا الشعب يرغبون بالغياب الأبدي بحثاً عن كسرة كرامة تجود بها عليهم دول اللجوء، ذلك افضل لديهم الف مرة من الكفاح لاثبات نظرياتهم داخل الوطن وكأن الأوطان التي آوتهم قد بناها الشيطان ولم تكن نتيجة كفاح آخرين سبقونا لمعرفة الآخر والحوار معه؛ ودائما كانت البدايات مضنية ولكن مناضلي تلك الأوطان قد مهدوا الأرض لأجيال تلتهم نعمت بفيض من التسامح والتعايش رفلوا به وجادوا ببعضه على مغتربينا الأعزاء المهددين أبداً بالتعامل غير السوي كونهم أولاً وأخيراً من أصول ربما تكون يوماً غير مرغوب بها.
لكن ما أثار اعجابي في الفيلم هو هذا الحل الذي طالما تحاورنا حوله وقد اقترحه هنا المخرج- المنتج بمنتهى الموضوعية والواقعية وهو انتاج افلام منخفضة الكلفة وسريعة الاعداد لا تستهلك ميزانيات ضخمة، ولا تتوسل التمويل والتعاطف الداخلي والخارجي، لكنها تفي بالغرض الثقافي والوظيفة التوثيقية للفيلم والوثائقي وتسجل حضوراً مميزاً للسينما العراقية التي نحلم بها؛ سينما طليعية تسهم في وضع الأصابع على الجراح وتقدم المعضلات الكبرى بكلمات بسيطة تماشيا مع رأي جان جاك روسو عندما عرف البلاغة على أنها قول اشياء معقدة بكلمات بسيطة.
أنا شخصيا متحمس لفيلم جمال أمين ربما أكثر من غيري كوني من الذين كلفو أنفسهم بالبحث في اسباب توقف السينما العراقية عن الانتاج، وبالبحث عن السبل المنطقية والعقلانية لاستمرار تدفق ابداع السينمائيين العراقيين بمواد فيلمية تصلح لتأسيس منطلقات عصرية لسينما عراقية نطمح أن نراها تمارس دورها التقويمي لمجتمع كادت ثقافته أن تتخلى عنه في أحلك الظروف التي مر بها.










( فايروس) جمال أمين : أختلف معك لكن لا ألغيك

كتابات - عبدالرزاق الربيعي

منذ سنوات بعيدة وأنا أتابع الأنشطة السينمائية للمخرج جمال أمين الذي بدأ حياته الفنية ممثلا شارك في عدة أفلام من بينها "بيوت في ذلك الزقاق" ومسلسلات تلفزيونية أبرزها"الذئب وعيون المدينة" وأخرج برامج تلفزيونية ,وعندما كان مقيما في الكويت خلال الثمانينيات أتيحت لي فرصة المشاركة معه في عملين مسرحيين موجهين للأطفال كتبت لهما كلمات الأغاني , ومنذ ذلك الحين وأنا أعرف دقته في العمل وحرصه عليه وجديته , وحين وصل الدنمارك في منتصف التسعينيات وضع نصب عينيه هدف إكمال مشروعه السينمائي بل صناعة سينما عراقية في الخارج على حسابه الخاص كما يفعل المخرج هادي ماهود وآخرون .
في فيلمه الجديد التسجيلي-الروائي القصير "فايروس" يلامس الواقع العراقي من خلال حكاية خمسة أصدقاء عراقيين يقيمون في الدنمارك : فرقد،محمد , مصطفى، وجليل، وجيّا الكردي إجتمعوا في مدينة أودنسة ليذهبوا في رحلة بالميكروباص متوجهين الى مدينة أورهوس وكعادة العراقيين حين يجتمعون فإن أحاديثم تدور حول أوضاع العراق حيث تبدأ بطرفة وتنتهي بخصومة , الطرفة يرويها (فرقد ) أكثر الشخصيات حيوية وطلاقة ولهذه الطرفة دلالة في سياق الأحداث فالحمار الذي التقى القرد المتذمر يسر للقرد خشيته من أن يمسخهما الله. فيرد عليه القرد " ماذا يمكن أن يمسخنا الله وأنا قرد وأنت حمار! " ؟
هذا السؤال ينطوي على أبعاد فهو يعبر عن حالة من القنوط واليأس التي تسيطر على شخصيات الفيلم الهاربين من أزماتهم الشخصية ليقضوا وقتا ممتعا لكن ازمات البلد تبقى تلاحقهم في سياحتهم الصغيرة داخل المكان الجديد
و في نقاشاتهم يتطرقون الى أمور صغيرة لكنها تبين إختلاف الأمزجة والولاءات فجيا الكردي يدخن سجائر المارلبورو الأمريكية ومصطفى يدخن سجائر سومر العراقية وتتصاعد نبرة النقاش حين يؤكد " جيا " بأن لغته ليست عربية وإن الأكراد أمة متكاملة لها علم مرفوع الى جانب العلم العراقي غير أن العلم الكردي أعلى من العلم العراقي بقليل! وهذا ما يزعج البقية لكن إصرار مصطفى على تشغيل الشريط الحسيني من جديد بعد أن أصغى في بداية الرحلة لنداءاتهم بتبديله كان القشة التي قصمت ظهر الرحلة ليصل الجميع الى القطيعة ويظهر, على نحو رمزي , "الفايروس " الذي أحدث كل هذه الفوضى وذاك الشتات وجعل العراقيين يهيمون على وجوههم في المعمورة !!
فيترك ثلاثة أشخاص منهم الميكروباص،يتقدمهم (فرقد ) (الشيعي) من أم (سنية) ورغم أن أمثالنا تؤكد أن "الإختلاف في الرأي لا يفسد في الود قضية " لكن حبال الود تتقطع فجأة فيفسد الإختلاف أمزجتهم ويقطعون الرحلة –يبتاع أحدهم الآيس كريم من (سوبرماركت ) في الطريق دلالة على السعي لكسر سخونة الأجواء المتوترة التي سادت - ثم يستقلون سيارة " سادات " اللا جئ الأوغندي للوصول الى أقرب محطة قطار ليعودوا الى أودنسة متخلين عن حلم السفر الى أورهوس وفي الطريق يشاهدون سيارة أصدقائهم عاطلة على قارعة الطريق وتبلغ الاحداث ذروتها حين ينزلون من سيارة "سادات" ليشاركوا أصدقاءهم دفع سيارتهم العاطلة فيتهادى صوت المطرب فؤاد سالم وهو يغني قصيدة الشاعر بدر شاكر السياب:
" صوتٌ تفجّر في قرارة نفسي الثكلى: عراق
كالمد يصعدُ كالسحابة
كالدموع الى العيون
الموج يصرخ بي عراق
والريحُ تعْوِل بي عراق
عراق
ليس سوى عراق"
في إشارة رمزية الى توحيد الهدف وتجاوز الخلافات خصوصا إن الخمسة يمثلون شرائح مختلفة من المجتمع العراقي لتتلخص أطروحة الفيلم في أختلف معك لكن لا الغيك والكل يجب أن يقبل الاخر ويقوم بدفع عجلة العراق الى الامام كما يؤكد المخرج جمال أمين الذي جمع شبابا لم يسبق لهم التمثيل وناقش معهم في بيته أمورا شتى حتى تبلورت فكرة الفيلم.
لقد عمد المخرج الى ترتيب جلوس الشخوص في المايكروباص بشكل دلالي وإشاري فجيا الكردي وضعه في المقدمة وفي الوسط فرقد ومحمد (السني) وفي الأخير يجلس جليل (الشيعي) في إشارة ذكية للتوزيع الجغرافي للسكان في العراق ويحمل الترتيب دلالة سياسية أيضا فقد جعل الذي يقود الميكروباص مصطفى (الشيعي) وخلفه مباشرة يجلس جيا (الكردي) - لإعطاء الفيلم شحنة رمزية
لكنه إفتقر الى وجود العنصر النسوي الذي لايمكن إغفاله في فيلم يتحدث عن شرائح من المجتمع العراقي ووجود هذا العنصر له مساحة جمالية ودلالية وكان سيضفي له الكثير وكذلك لم يكن في الباص مسيحيا ليمثل هذه الشريحة الواسعة والواضح إن إنتاجية الفيلم المحدودة , وهو إنتاج شخصي , أملت على المخرج هذا الإغفال .
والملاحظ إن معظم المشاهد صورت داخل الميكروباص وهذا يعني للمشتغلين في الحقل السينمائي صعوبة حركة الكاميرا لضيق المساحة ومحدودية المكان لكن الإنتقالات السريعة ووضع فواصل سمعية من خلال تبديل شريط جهاز التسجيل وبصرية من خلال أخذ لقطات للشارع وللاشجار التي تحف به ساهمت في طرد الرتابة والملل حيث يبرز هنا عامل الخبرة والحرفية للمخرج الذي أضاف لسجله السينمائي فيلما جميلا .



















عدنان حسين احمد - من لندن
تكمن أهمية الفيلم الوثائقي " فايروس " للمخرج العراقي جمال أمين في تعاطيه مع موضوعة حيوية وحساسة وساخنة، بل أنها جاءت في أوانها مُستجيبةً لشروط الواقع العراقي الراهن الذي يسوده التخبط والتشوّش والارتباك.ولا شك في أن أي فيلمٍ " تسجيلي " يطمح لأن يكون وثيقة في المستقبل لا بد أن يعوّل على الحياد، ويعتمد على المصداقية، ويتكئ على عفوية الآراء والأطاريح التي تتنباها شخصيات الفيلم التي ترسم بالنتيجة المعالم الحقيقية للمرحلة العصيبة التي يمر بها الوطن والمواطن على حد سواء. والمتابعون من كثب لتجربة المخرج جمال أمين يعرفون جيداً أنه يتوفر على رؤية إخراجية متميزة، كما أنه يمتلك القدرة على كتابة سيناريوهات ناجحة لأفلامه الوثائقية، وربما يكون فيلم " فايروس "، مناط بحثنا ودراستنا، هو خير مثال لما نذهب إليه. وعلى الرغم من أهمية الكتابة السينمائية والرؤية الاخراجية لجمال أمين إلا أن هدف هذه الدراسة سينصّب على قوة الترميز التي تُعزز من مكانة الفيلم لدى المشاهدين، وتلامس في أعماقهم أوتاراً حساسة ومرهفة. فالفيلم يخاطب الأحاسيس والمشاعر الداخلية للمتلقي العراقي أولاً، كما أن يلامس وجدان المتلقي العربي، ويستطيع الوصول الى المتلقي العالمي المَعني بالقضية العراقية في الأقل.وظيفية الرمز ودلالتهنجح المخرج جمال أمين منذ بداية الفيلم في إحالة المُشاهد الى عالمٍ رمزيٍ محفوفٍ بالغموض والملابسات الشائكة مُستثمراً الثيمات الحقيقية حيناً، والثيمات المجازية والاستعارية في أحايين أُخَرْ لكي يجسّد الأفكار التي تدور ذهنه على أمل الوصول الى اللحظة التنويرية التي يتأجج فيها ذهن المشاهد وهو يصل الى النهاية المدهشة ويقول في خاتمة المطاف " لقد لامسَ هذا المخرج الذكي العصب الحساس في روحي، وهزَّ وجداني من الأعماق!" لا بد أن يخطر في ذهن المتلقين لهذا الفيلم سؤال ما عن معنى الفايروس الذي اجتاح جسد خريطة العراق من أقصى الغرب الى أقصى الشرق. ( كنت أتمنى على المخرج أن يجعل الفيروسات تتحرك من أقصى الجنوب الى أقصى الشمال كي تتطابق الحركة مع اندفاع القوات الأنكلو- أمريكية التي إنطلقت من الكويت وبعض بلدان الخليج العربي التي تحتضن القواعد الأمريكية المعروفة، ولا بأس في أن تتحرك بعض الموجات الفيروسية من شرق العراق وغربه في إشارة واضحة موجات الشقاق الطائفي التي بثتها بعض البلدان الاسلامية والعربية المحيطة بالعراق). وقد ذهب المخرج جمال أمين بالرمز الى أقصى حدوده حينما وقع اختياره على هذا العنوان شديد الدلالة. فكلمة " فايروس " كما هو معروف لاتينية وتعني " السُم " وأكثر من ذلك فهي جُسيمات مُعْدية تُبدي خصائص الحياة كالتكاثر والتضاعف مُستعينة بخلايا الجسد المُضيف التي تتم السيطرة عليها من قبل الفايروس. وما أكثر وجوه الشبه بين أفعال الاحتلال وأفعال الفيروسات التي رأيناها عبر الفيلم تفتك بخلايا العراق وشرايينه الدقيقة. من هنا فإن اختيار العنوان دقيق وموفق ومُوغل في رمزيته.بنية القصة السينمائيةعلى الرغم من أن الفيلم وثائقي بالدرجة الأساس، ويحتاج غالباً الى سيناريو يُكتَب بعد التصوير، إلا أن المخرج جمال أمين يميل الى تطعيم بعض أفلامة بمسحة روائية. وحينما نقول مسحة فإننا نعني أن هناك لمساتٍ روائيةً تخرج عن حدود السرد الوثائقي. ففي هذا الفيلم ثمة تصعيد درامي في سياق النقاش الذي يحتد ويصل بالأصدقاء العراقيين الخمسة الى حد القطيعة. فقد ترك ثلاثة أشخاص منهم الميكروباص، واستقلوا سيارة أخرى كي توصلهم الى أقرب محطة قطار ثم يعودوا الى مدينة أودنسة التي انطلقوا منهما مجتعين. هنا تصل القصة السينمائية الى ذروتها في تصاعد درامي ملحوظ، غير أن الأحداث تأخذ منحىً آخر حينما يستقلوا سيارة " سادات " وهو لا جئ أوغندي لا يجد ضيراً في أن يقلهم الى المحطة القادمة حيث يصادفوا سيارة أصدقائهم عاطلة على قارعة الطريق فيقرروا دفعها جميعاً وكأنهم يدفعون " عراقاً عاطلاً ويائساً من حركته الى أمام! ". هذا السياق التصاعدي يكشف عن بنية روائية أو قصصية في أضعف الأحوال. أما السمة الروائية الأخرى فإن الفيلم برمته ينتمي الى " أفلام الطريق ". ولو تمعنا في نقطة البداية التي انطلق منها العراقيون الخمسة الذين ينتمون الى قوميات ومذاهب مختلفة فسنجد أنها مدينة اودنسه، وهي ذات المدينة التي يعيش فيها المخرج جمال أمين والشخصيات الخمس التي جسدت أدوارها في فيلم " فايروس " أما نقطة النهاية المُفترضة فهي مدينة أورهوس. أي أن أحداث هذا الفيلم كانت تتجسد خلال ست وثلاثين دقيقة على هذا الطريق الممتد بين أودنسة وأورهوس . كان الحوار السردي روائياً في الكثير من جوانبه، وبالذات حوارات " فرقد " الذي ينتمي الى أسرة شيعية- سنية في آنٍ معاً. فأبوه رجل شيعي وأمه سنية، هذه الحوارات السريعة والتي تلعب غالباً على أوتار حساسة قد سارعت في الوصول الى الحدث الأهم، كما سارعت في تثويره وحسمة بسرعة غير متوقعة، خصوصاً وان " فرقد " كان يتحدث بلغة ماكرة يمتزج فيها الجد بالسخرية الى الدرجة التي قد تربك المتلقي وتشوشه. ولكي لا نسترسل في التفاصيل الروائية الأخرى لا بد من الاقرار بأن الفيلم كنوع سينمائي ينتمي الى ما يمكن تسميته بـ " Docufiction " وهو أسلوب يمزج بين الفيلم الوثائقي من جهة والروائي من جهة أخرى. شخصيات الفيلمإنتقى المخرج جمال أمين خمسة أشخاص وهم جميعاً لم يمارسوا التمثيل من قبل. أربعة منهم عرب وهم فرقد، مصطفى، محمد وجليل، وواحد كردي وهو جيّا. وبين الأشخاص العرب إثنان ينتميان للمذهب الشيعي وهما السائق مصطفى وجليل، والثالث سني وهو محمد، والرابع " شيعي – سني " وعلى الرغم من أن المخرج لم يغَّطِ كل القوميات وكل الأديان الموجودة في العراق مثل التركمان والكلدوآشوريين والإيزيديين والصابئة إلا أن النماذج التي حضرت كانت كافية للتعبير عن طبيعة التجاذب الذي يحدث بين القوميات والاديان والمذاهب العراقية المتنوعة. ويبدو أن الميكروباص لم يتسع إلا لهذا العدد المحدود مُضافاً إليه المصور الذي كان يجلس في المقعد الأمامي والمصور الثاني الذي كان يجلس الى يمين "فرقد " الشخصية الأساسية التي هيمنت على الجزء الأكبر من الحوار. من الواضح أن فرقداً كان شخصية قائدة وبيدها زمام الأمور. فهو الذي يتصل هاتفياً بالبقية الباقية من أصدقائه، كما أنه هو الذي يصدر بعض الأوامر مثل الانطلاق من أودنسه، وسرد النكت، وإدارة دفة الحديث وما الى ذلك. وهو للمناسبة شخصية مرحة، مقبولة، وخفيفة الظل، هذا إضافة الى كونه مُحاوِرا جيدا قادرا على أن يمزج الجد بالهزل، ويصل الى غاياته واهدافه بطريق ملتوية، ولا يجد ضيراً في التعرّض للآخرين والتجريح بهم حتى لو لإقتضى الأمر اللجوء الى الوعيد والتهديد. يبدأ فرقد حديثه بنكتة الحمار والقرد اللذين دبَّ إليهما السأم والضجر وبدءآ يتذمران. وكان الحمار يخشى أن يمسخهما الله. فرد عليه القرد متهكماً " ماذا يمكن أن يمسخنا الله وأنا قرد وأنت حمار! " وكعادة السائق مصطفى المدمن على سماع المأساة الحسينية ليل نهار. ففي صبيحة عطلة هذا الأسبوع كان يستمع الى " المَقتل الحسيني " ولم يقْدم على تغيير الكاسيت إلا بعد إلحاح الجزء الأكبر من الأصدقاء بما فيهم جليل الذي تخلو شخصيته من بعض التعصب الديني. ومن خلال هذه الكوّة يدخل فرقد في حوارات متشعبة متحرشاً بالسائق مصطفى، وجيا الكردي، وجليل الشيعي الذي يتخذ الكثير من المواقف الوسطية للتوفيق بين الأطراف العربية والكردية من جهة، والسنية والشيعية من جهة أخرى. وبما أن " جيا " الكردي يدخن سجائر المارلبورو فإنها سانحة الحظ بالنسبة لفرقد لكي يتهمه بالتأمْرك مثلما إتهم مصطفى الذي يدخن سجائر سومر العراقية بتبعيته لإحدى دول الجوار التي أمعنت في التدخل بالشأن العراقي. ثم يحتدم النقاش مع " جيا " الذي أُستُفِزَّ حينما ذَكَرَ فرقد اسم البارزاني. وفي معرض دفاعه عن القضية الكردية يؤكد " جيا " بأن لغته لا تُشبه اللغة العربية، وعاداته لا تشبه عادات العرب، وأنهم أمة متكاملة، ولهم علم كردي مرفوع الى جانب العلم العراقي غير أن العلم الكردي أعلى من العلم العراقي بقليل! ثم يأخذ النقاش منحىً آخر مع السائق مصطفى الذي لا يرى الحياة إلا من منظار المعاناة، وجَلد الذات، ولاستماع الى القراءات الحسينية. فحينما يحاججه فرقد بأن هناك مناسبة دينية لأحد الأئمة الشيعة قد إنصرمت قبل بضعة أيام يرد عليه مصطفى بأن شهر محرم الحرام على الأبواب في حين أن المدة الزمنية التي تفصلهم عن محرّم هي ثلاثة أشهر. وحينما تزداد مطالبة الآخرين بسماع بعض الأغاني الترفيهية لأنهم في رحلة عطلة الأسبوع وليسوا في مأتم يصر مصطفى وهو سائق الميكروباص، ويحتمل أن تترحل إليه دلالة القيادة بصيغة رمزية، على أن الذي يريد أن يستمع للمقتل الحسيني فعليه أن يبقى في السيارة، ومن لا يريد أن يستمع للمقتل الحسيني فعليه مغادرة السيارة أو بمعنى آخر مغادرة العراق. هكذا بدأت تضيق مساحة الوطن. فـ " جيا " يريد علم كردستان أعلى من علم العراق، ويرى في البارزاني " قِبلة الأكراد " ولا يريد أن يقبل بأي وجه من أوجه التشابه الموجودة بين العرب والكرد. كما أن مصطفى لا يقبل بأي عراقي ما لم يستمع الى مأساة الحسين، ويصبح أسيراً للتاريخ الذي إندثر منذ 1400 سنة تقريباً. أما جليل فكان شخصية وسطية تبرر لمصطفى وجيا ومحمد وحتى الى فرقد في بعض الأحيان. أما محمد فقد كان الأقل حظاً في التعبير عن وجهات نظره. إن أثرى الشخصيات وأعمقها هي من دون شك شخصية فرقد كونه ينتمي الى المذهبين السني والشيعي في آن معاً. كما أنه ضحية للنظام السابق، وقد فقد " 18 " شخصاً من أسرته وأسر أقربائه. وهو يحب العراق من دون شك، ولكنه يريد للجميع أن ينضووا تحت رايته حتى لو تطلب الأمر ظهور شخصيات قمعية لا تتعامل مع العراقيين إلا بلغة الحديد والنار والغازات السامة. إستعان المخرج جمال أمين في لحظة التوتر التي أفضت الى إنفصال الأصدقاء العراقيين الى مجموعتين بقصيدة " غريب على الخليج " لبدر شاكر السيّاب، وهو شاعر عراقي مُحَبَب الى شرائح واسعة من الشعب العراقي، كما إستجار بصوت الفنان العراقي فؤاد سالم الذي كان صوته يتماهى مع إسم العراق لانقاذ ما يمكن إنقاذه من تمزق وتشرذم شطَر هذه المجموعة العراقية الى شطرين متباعدين، ويبدو أن الأغنية لم تكن " تتفجر في قرارة نفس الشاعر الثكلى " حسب، وإنما كانت تتفجر في أعماق الشخصيات الخمس التي ترمز الى العراق كله وتُحيل إليه بمختلف مكوناته الاجتماعية. لنستمع الى هذا المقطع الشعري المعبِّر للسياب وهو يُغنّى بصوت فؤاد سالم الممتلئ حنيناً وعذوبة: " صوتٌ تفجّر في قرارة نفسي الثكلى: عراق / كالمد يصعدُ كالسحابة، كالدموع الى العيون/ الموج يصرخ بي عراق / والريحُ تعْوِل بي عراق، عراق، ليس سوى عراق" الخاتمة التعبيريةحينما ينقسم الأصدقاء العراقيون الخمسة الى قسمين، ثلاثة يترجلون من الميكروباص " رمز الوطن مجازاً " بينما يبقى المتشددون فيه، ويقودونه الى الهدف المرسوم له سلفاً يتعطل في منتصف الطريق، بينما الحياة تسير وكأن شيئاً لم يكن. وحينما يصل الأصدقاء الثلاثة الذين ترجلوا سابقاً يشاهدون " الميكروباص أو العراق " عاطلاً على قارعة الطريق. وبلقطة بليغة جداً قد تمثل عصارة الفيلم يطلب مصطفى، السائق المتشدد الذي قمعهم غير مرة، أن يدفعوا " الميكروباص أو العراق " دفعة صغيرة علّه يتحرك، ويندفع الى أمام!.